الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
ففيه نفي للأصل والفرع معًا، وانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، قال الحسن: كانت هذه البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها {لا تُثِيرُ الأرض} إلخ، وذهب قوم إلى أن تثير مثبت لفظًا ومعنى؛ وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ونفى عنها سقي الحرث، ورد بأن ما كان يحرث لا ينتفي عنه كونه ذلولًا، وقال بعض: المراد إنها تثير الأرض بغير الحرث بطرًا ومرحًا، ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرونها وأظلافها فتثير تراب الأرض فيكون هذا من تمام قوله: {لاَّ ذَلُولٌ} لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على ذلك وليس عندي بالبعيد وذهب بعضهم كما في الكواشي إلى أن جملة {تُثِيرُ} في محل نصب على الحال، قال ابن عطية: ولا يجوز ذلك لأنها من نكرة، واعترض بأنه إن أراد بالنكرة بقرة فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازًا حسنًا وإن أراد بها {لاَّ ذَلُولٌ} فمذهب سيبويه جواز مجيء الحال من النكرة وإن لم توصف، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه اللهم إلا أن يقال: إنه تبع الجمهور في ذلك وهم على المنع وجعل الجملة حالًا من الضمير المستكن في ذلول أي: لا ذلول في حال إثارتها ليس بشيء، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: {لاَّ ذَلُولٌ} بالفتح فلا للتبرئة، والخبر محذوف أي هناك، والمراد مكان وجدت هي فيه، والجملة صفة ذلول، وهو نفي لأن توصف بالذل، ويقال: هي ذلول بطريق الكناية لأنه لو كان في مكان البقرة لكانت موصوفة به ضرورة اقتضاء الصفة للموصوف، فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به، فهذا كقولهم محل فلان مظنة الجود والكرم، وهذا أولى مما قيل: إن {تُثِيرُ} خبر {لا} والجملة معترضة بين الصفة والموصوف لأنه أبلغ كما لا يخفى، وبعضهم خرج القراءة على البناء نظرًا إلى صورة {لا} كما في كنت بلا مال بالفتح، وليس بشيء لأن ذلك مقصور على مورد السماع، وليس بقياسي على ما يشعر به كلام الرضى وقرئ {تَسْقِى} بضم حرف المضارعة من أسقى عنى سقى، وبعض فرق بينهما بأن سقى لنفسه، وأسقى لغيره كماشيته وأرضه.{فالآن باشروهن} [البقرة: 187] إذا الأمر نص في الاستقبال، وادعى بعضهم إعرابها لقوله: يريد من الآن فجره وهو يحتمل البناء على الكسر، وأل فيها للحضور عند بعض، وزائدة عند آخرين، وبنيت لتضمنها معنى الإشارة، أو لتضمنها معنى أل التعريفية كسحر وقرئ {آلآن} بالمد على الاستفهام التقريري إشارة إلى استبطائه وانتظارهم له.وقرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وعنه روايتان حذف واو {قَالُواْ} وإثباتها فَذَبَحُوهَا أي فطلبوا هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها {فَذَبَحُوهَا} فالفاء فصيحة عاطفة على محذوف إذ لا يترتب الذبح على مجرد الأمر بالذبح، وبيان صفتها وحذف لدلالة الذبح عليه؛ وتحصيلها كان باشترائها من الشاب البار بأبويه كما تظافرت عليه أقوال أكثر المفسرين والقصة مشهورة، وقيل: كانت وحشية فأخذوها، وقيل: لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله تعالى من السماء وهو قول هابط إلى تخوم الأرض، قيل: ووجه الحكمة في جعل البقرة آلة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب ذلك في قلوبهم، لقوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93] ثم بعد ما تابوا أراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليكون حقيقة لتوبتهم، وقيل: ولعله ألطف وأولى إن الحكمة في هذا الأمر إظهار توبيخهم في عبادة العجل بأنكم كيف عبدتم ما هو في صورة البقرة مع أن الطبع لا يقبل أن يخلق الله تعالى فيه خاصية يحيا به ميت عجزة نبي؟ا وكيف قبلتم قول السامري إنه إلهكم وها أنتم لا تقبلون قول الله سبحانه: إنه يحيا بضرب لحمة منه الميت سبحان الله تعالى هذا الخرق العظيم.{وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} كنى على الذبح بالفعل أي وما كادوا يذبحون واحتمال أن يكون المراد: وما كادوا يفعلون ما أمروا به بعد الذبح من ضرب بعضها على الميت بعيد، وكاد موضوعة لدنوّ الخبر حصولًا ولا يكون خبرها في المشهور إلا مضارعًا دالًا على الحال لتأكيد القرب، واختلف فيها فقيل: هي في الإثبات نفي وفي النفي إثبات، فمعنى كاد زيد يخرج قارب ولم يخرج وهو فاسد لأن معناها مقاربة الخروج، وأما عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول ولو صح ما قاله لكان قارب ونحوه كذلك ولم يقل به أحد، وقيل: هي في الإثبات إثبات وفي النفي الماضي إثبات وفي المستقبل على قياس الأفعال. وتمسك القائل بهذه الآية لأنه لو كان معنى {وَمَا كَادُواْ} هنا نفيًا للفعل عنهم لناقض قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا} حيث دل على ثبوت الفعل لهم والحق أنها في الإثبات والنفي كسائر الأفعال، فمثبتها لإثبات القرب، ومنفيها لنفيه، والنفي والإثبات في الآية محمولان على اختلاف الوقتين أو الاعتبارين فلا تناقض إذ من شرطه اتحاد الزمان والاعتبار، والمعنى أنهم ما قاربوا ذبحها حتى انقطعت تعللاتهم فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها ائتمارًا وما كادوا من الذبح خوفًا من الفضيحة أو استثقالًا لغلو ثمنها حيث روى أنهم اشتروها لء جلدها ذهبًا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير؛ واستشكل القول باختلاف الوقتين بأن الجملة حال من فاعل {ذبحوها} فيجب مقارنة مضمونها لمضمون العامل، والجواب بأنهم صرحوا بأنه قد يقيد بالماضي فإن كان مثبتًا قرب بقد لتقربه من الحال وإن كان منفيًا كما هنا لم يقرن بها لأن الأصل استمرار النفي فيفيد المقاربة لا يجدي نفعًا لأن عدم مقاربة الفعل لا يتصور مقارنتها له، ولهذا عول بعض المتأخرين في الجواب على أن {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} كناية عن تعسر الفعل وثقله عليهم وهو مستمر باق، وقد صرح في شرح التسهيل أنه قد يقول القائل لم يكد زيد يفعل ومراده أنه فعل بعسر لا بسهولة وهو خلافا الظاهر الذي وضع له اللفظ فافهم.
وقيل: إن القاتل جمع وهم ورثة المقتول، وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله؛ ولهذا نسب القتل إلى الجمع.{وَأَنزَلْنَا فِيهَا} أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء والدال مع تقارب مخرجيهما وأريد الإدغام فقلبت التاء دالًا وسكنت للإدغام فاجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الإبتداء بها، وهذا مطرد في كل فعل على تفاعل أو تفعل فاؤه تاء أو طاء، أو ظاء، أو صاد، أو ضاد والتدارؤ هنا إما مجاز عن الاختلاف والاختصام، أو كناية عنه إذ المتخاصمان يدفع كل منهما الآخر، أو مستعمل في حقيقته أعني التدافع بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه فكل منهما من حيث إنه مطروح عليه يدفع الآخر من حيث إنه طارح، وقيل: إن طرح القتل في نفسه نفس دفع الصاحب وكل من الطارحين دافع فتطارحهما تدافع، وقيل: إن كلًا منهما يدفع الآخر عن البراءة إلى التهمة فإذا قال أحدهما: أنا بريء وأنت متهم يقول الآخر: بل أنت المتهم وأنا البريء، ولا يخفى أن ما ذكر على كل ما فيه بالمجاز أليق، ولهذا عد ذلك أبو حيان من المجاز، والضمير في {فِيهَا} عائد على النفس، وقيل: على القتلة المفهومة من الفعل، وقيل: على التهمة الدال عليها معنى الكلام، وقرأ أبو حيوة {فتدارأتم} على الأصل، وقيل: قرأ هو وأبو السوار فادرأتم بغير ألف قبل الراء، وإن طائفة أخرى قرءوا فتدارأتم.{فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر لا محالة ما كنتم تكتمونه من أمر القتيل، والقاتل كما يشير إليه بناء الجملة الاسمية وبناء اسم الفاعل على المبتدأ المفيد لتأكيد الحكم وتقويه وذلك بطريق التفضل عندنا والوجوب عند المعتزلة وتقدير المتعلق خاصًا هو ما عليه الجمهور، وقيل: يجوز أن يكون عامًا في القتيل وغيره، ويكون القتيل من جملة أفراده، وفيه نظر إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى، وأعمل {مُخْرَجَ} لأنه مستقبل بالنسبة للحكم الذي قبله، وهو التدارؤ ومضيه الآن لا يضر والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار. وفي البحر إن كان للدلالة على تقدم الكتمان.
وقد أشير بالشيخ والعجوز والطفل والشاب المقتول على ما في بعض الآثار في هذه القصة إلى الروح والطبيعة الجسمانية والعقل والقلب وتطبيق سائر ما في القصة بعد هذا إليك هذا وسلام الله تعالى عليك.
|